تابع المقال - التربية في ظل المتغيرات الجديدة ـ ۱
٦= السعي لإنشاء مؤسسات تربوية عامة:
تفتقر مجتمعاتنا اليوم إلى مؤسسات عامة تحتضن أبناء المجتمعات المسلمة، فالشباب والفتيات اليوم يعانون من الفراغ، وسوف تزداد مخاطره تبعا للمتغيرات الجديدة، لذا فمن مسؤولية الدعاة والمربين السعي لإيجاد محاضن عامة لأمثال هؤلاء.
ولايزال كثير من المربين يفكرون بعقلية منغلقة، ولايرون من الواقع إلا فئة محدودة ممن يتعاملون معه، وحين يسمعون مصطلح التربية يحصرونه في هذا الإطار.
٧= توسيع دائرة الجهود التربوية:
تتطلب هذه المرحلة توسيع الجهود التربوية وعدم إقتصارها على النخبة، فلئن قدمت مؤسسات الصحوة اليوم برامج تربوية متميزة للشباب أنتجت هذا الأثر الملموس، فلابد من تقديم برامج تربوية عامة لطبقات وشرائح دون المستفيدين من البرامج التربوية القائمة اليوم.
وحتى تؤدي هذه البرامج المنتظرة ثمرتها لابد من توسيع أهدافها لتستهدف المحافظة على أصل التدين الموجود لدى هؤلاء الشباب، وتأصيل الثقافة الإسلامية الصحيحة، إنهم يواجهون مخاطر فكرية وعقدية يتربع على قمتها من يدعو إلى الإلحاد في ظل بناء هش وثقافة شرعية هشة وعلم شرعي سطحي، فنحن نحتاج إلى جهود تؤصل الثقافة الإسلامية عند الناشئة ولو كان السلوك الذي هم عليه اليوم غير مرضي.
ولا بد من التخلي من فكرة إما أن يكون الشاب متدينا صالحا داعيا أو لايكون، فلابد من مراعاة هذه المستويات وتقديم جهود متوازنة في ذلك من خلال: إقامة الجميعات والمؤسسات والأندية العامة الموجهة، وتصدي طائفة من المربين للتعامل مع هؤلاء، ومن خلال الأنشطة والبرامج المدرسية، والسعي قدر الإمكان لتوجيه البرامج العامة الموجهة للشباب كالجمعيات العامة والنوادي والأنشطة الكشفية والرياضية ونحوها.
۸= تطوير الأساليب التربوية:
لا بد من تغير الأساليب التربوية وتطويرها، وتجاوز الأساليب التقليدية السابقة التي إعتاد المربون عليها، وإختلطت فيها الوسائل بالغايات، والأساليب بالمنهج، ولئن كان السابقون يقولون: إن أولادكم خلقوا لعصر غير عصركم، فسرعة التغير اليوم تجعل هذه المقولة أكثر إنطباقا ومصداقية، وتجعل التفاوت يلحظ في مستويات أكثر تقاربا في العمر من مستويات جيل الآباء وجيل الأبناء.
۹= إقتحام وسائل الإعلام والمشاركة فيها:
نحتاج اليوم إلى مشاركة الدعاة مشاركة فعالة وتقديم المادة التربوية المتميزة، إن وسائل البث الإعلامي اليوم وأبرزها القنوات الفضائية لا تقدم في معظمها إلاّ المادة الهزيلة، المادة التافهة المادة التي تدور حول الإثارة والإغراء وتتجاوب مع عواطف الناس وغرائزهم، بل تستهدف إثارة الكامن من غرائز الناس، وهي بحاجة اليوم إلى أن تُثرى بالمواد الجادة التي يحتاجها الناس.
والمادة التي نحتاج اليوم إلى تقديمها منها ما يحتاجه الجيل المستهدف بهذا الغزو: جيل الشباب والفتيات وجيل الناشئة، فنحتاج أن نقدم لهم برامج جادة تقدم لهم المادة المتميزة المحافظة، وتجيب على تساؤلاتهم، وتتحدث عن همومهم، وتقدم لهم الثقافة الشرعية باللغة المعاصرة التي يفهمونها، وتتلاءم مع حاجاتهم ومع متطلباتهم.
ونحتاج أيضاً إلى تقديم برامج تتناول القضايا التربوية التي يحتاجها المربون، وتحتاجها الأسرة، وتحتاجها المدرسة، ويحتاجها المعلمون والمهتمون بشؤون التربية.
وإلى متى تكون هذه الوسائل حكراً على دعاة الإثارة، والباحثين عن الشهرة، وإلى متى تظل هذه الوسائل تسهم في تسطيح ثقافة الأمة، وفي تهميش إهتماماتها؟
إن هذه الوسائل هي التي تتحكم اليوم في ثقافة الأمة وتصنع الرأي العام وتُوجّه الناس شئنا أم أبينا، ولابد من أن يفكر الجادوّن في التعامل مع مثل هذه الوسائل والقنوات، ولابد أن يعيدوا النظر في إحجامهم فيما سبق، ولئن كان الصالحون يجدون مبرراً وعذراً لهم فيما سبق في تأخرهم عن مشاركة في هذه القنوات بإعتبار إنها قنوات مُدَنّسَةُ تنشر الفساد واللهو، فاليوم أصبحت مطلباً، وأصبحت المصالح التي ينتظر أن تتحقق من وراء هذا مصالح عظيمة، فهذه الوسائل هي القنوات والوسائل التي تخاطب الناس.
إن المنبر الذي يتحدث من خلاله خطيب الجمعة، أو درس المسجد، أو المدرسة المتميزة، هذه المؤسسات ستبقي تؤدى دورها ورسالتها، لكنها لم تعد اليوم تخاطب الشريحة الواسعة من الناس، إن معظم الشباب إذا حضروا إلي صلاة الجمعة لا يحضرون إلاّ متأخرين، وإذا حضروا وجدوا أن موضوع الخطبة يتناول قضايا بعيدة عن إهتماماتهم، وعن قضاياهم، ثم إن وسائل الإعلام تملك من الجذب والإثارة والوسائل مالا تملكه الوسائل الأخرى، فهي جديرة في أن نعيد النظر في مدى تعاملنا معها، وأن يهتم المربون بتقديم مادة جادّة فيها.
إنها تفتفقر إلى مواد للشباب والفتيات تخاطبهم بمستواهم وعقولهم وقدراتهم، وإلى برامج تربوية للآباء والمعلمين، وإلى إنتاج إعلامي متميز يخاطب الطفل والمرأة، يكون بديلا لهذا الإنتاج العفن الذي تعاني منه وسائل الإعلام، وسيزداد عفونة مع الإنفتاح على النموذج الغربي المتعفن
۱٠= تعزيز الوظائف الإجتماعية للمدرسة:
لابد من السعي لتعزيز الوظيفة الإجتماعية للمدرسة، وأن تتحول من مجرد ميدان للعطاء المعرفي إلى ميدان يجد فيه الطالب الراحة والانسجام والإقبال.
ويمتثل هذا الإصلاح في مسارين: الأول على المدى البعيد وهو يحتاج إلى إصلاح جذري في بنية التعليم وهيكليتيه، في ظل طلب متزايد على التعليم وإمكانات محدودة، وهذا لن يتم مالم يعطى التعليم أولوية في الإنفاق والجهد.
والمسار الثاني على المدى القريب وهو مايتعلق بمهمة ناظر المدرسة، أو مهمة المعلم والمشرف التربوي، والأخصائي الإجتماعي، ويتم هذا بإعادة النظر في أساليب التعامل مع الطلاب، وضرورة بناء علاقة إجتماعية جيدة معهم، والسعي للقرب منهم، كما يمكن أن تمثل الأنشطة اللاصفية ميدانا مهما يعزز من الوظيفة الإجتماعية للمدرسة.
إن طلابنا اليوم يكرهون المدارس، ويفرحون بالإجازة ويتمنونها، ذلك أنهم يعيشون في المدارس في جو أكاديمي بحت، وهي تطالبهم ولاتعطيهم، وهذا سيؤدي إلى تقليص أثر المدرسة، فمالم يجد الطالب الجو الإجتماعي المريح له فيها فلن تؤتي الإمكانات التربوية المتاحة للمدرسة أثرها.
وكما ينبغي الإعتناء بذلك في ظل الأسرة ومؤسسات التعليم والتربية الخيرية كحلقات التحفيظ ونحوها، وليسعى المربون في هذه المؤسسات إلى بناء جو إجتماعي يسهم في زيادة الإقبال على هذه البرامج، ويهيء نفسيات المتربين للتقبل والتلقي، فمهمة معلم القرآن لاينبغي أن تقتصر على إتقان التلاوة والتوجيهات العاجلة، بل لابد من بناء علاقة إجتماعية جيدة بين معلم القرآن وبين الطالب تجعل من هذه الميادين ميادين تربوية منتجة.
إن جيل الطلاب الصالحين الأخيار الذين يقبلون على حلق القرآن وهذه الأنشطة غير الجيل السابق، هذا الجيل يحتاج إلى نوع من الترغيب ويحتاج إلى بناء علاقة إجتماعية ودافئة وقوية بينه وبين المربي حتى يستطيع أن يؤدي الدور الأكبر، وحتى يستطيع أن يوسع المساحة التي يأخذها من الدائرة الكبيرة التي تؤثر على هذا الشاب.
۱۱= تدعيم الروابط الإجتماعية وتقويتها:
يترك الترابط الإجتماعي أثره التربوي الفاعل، فالأسرة المترابطة تمارس قدرا من الضبط الإجتماعي لأفرادها، وإحتمالات الإنحراف لدى الفرد الذي ينتمي إلى أسرة مفككة أكثر منها لدى الذي ينتمي إلى أسرة مستقرة.
إن تدعيم الروابط الإجتماعية وتعزيزها، والسعي إلى إقامة برامج وأنشط تسهم في تعزيز هذه الروابط يعد من أهم مطالب المرحلة القادمة.
فلابد من إحياء هذه الفكرة ونشرها بين الشباب اليوم، والدعوة إلى تنظيم برامج عائلية وأسرية، وإعطاء الأسر والعوائل جزءاً من الوقت والإهتمام.
والأنشطة الإجتماعية والعائلية المطلوبة اليوم لاينبغي أن تقتصر على مجرد الأنشطة الدعوية وتنظيم المواعظ والمحاضرات، بل لابد أن يكون إحياء الترابط والتماسك الإجتماعي مطلبا في حد ذاته.
۱۲= تقديم الخدمات الإستشارية في الجانب النفسي والإجتماعي:
ستواجه الآباء والأمهات وسائر المربين مشكلات جديدة لم يألفوها ويعهدوها، وهذا يبرز الحاجة لأن يبادر المختصون والمهتمون من الصالحين بتقديم خدمات إستشارية لهؤلاء.
وزيادة الحاجة مع فراغ الساحة ستؤدي إلى أن سيتصدى للميدان فئة غير منضبطة ولا محافظة، فئة تقول إن التربية الصحيحة لإبنتك أن تتركها تصادق الشباب وتذهب مع من شاءت وتختار صديقها بنفسها.
والتربية الصحيحة للشاب المراهق أن تتركه ولا تواجه غرائزه، ولا تكبته، سيجد الآباء والمربون من يقدم لهم هذه النصيحة وهذا الإرشاد، وسيجد الشباب والفتيات من يعطي هذه الغرائز المشروعية ويزيل عنهم التحرج والتأثم.
فما لم يبادر الغيورون الصالحون لتقديم خدمات إستشارية للأسر والآباء والأمهات والمعلمين، سيسبق إليها هؤلاء الذين ربما تكون كثير من خدماتهم ونصائحهم تدعم الإنحراف، دون أن تقضي عليه.
كما أن بروز هذه المشكلات، والحاجة للإستشارت سميثل منطلقا دعويا مهما يمكن أن يستمثر في إصلاح واقع الناس.
۱۳= تفعيل دور التعليم الأهلي:
يمتلك التعليم الأهلي قدراً أكبر من المرونة وقدرا أكبر من الإمكانات، ويتفوق في ذلك على التعليم النظامي الذي يتسم ببطء التطوير، وتعقد الإجراءات.
وهذا يجعل منه ميدانا ومنطلقا لتطوير برامج تربوية ودعوية يمكن أن تسهم في بناء الجيل وتختصر خطوات عدة تبذل خارج إطار التعليم.
وهذا يتطلب الإعتناء بالجانب التربوي والدعوي في التعليم الأهلي، والسعي لإستثمار مايمكن إستثماره منه، بدلا من أن يكون الوجه البارز هو الوجه المادي الإستمثاري.
۱٤= تطوير التعليم الشرعي:
والتطوير الذي نسعى إليه وننشده في التعليم الشرعي يتمثل في مسارين:
* المسار الأول- تهيئة فرص جديدة:
وهذا الأمر تدعو إليه اعتبارات عدة، منها:
1= نقص الطلب على التعليم الشرعي النظامي، فقد كانت فرص العمل لخريجي هذا النوع فيما سبق تدفع بكثير من الخيرين للإتحاق به، والآن بدأت كثير من هذه الفرص في التراجع، والإتجاه في المستقبل القريب نحو مزيد من التراجع، ومن ثم فنحن أمام مطلب ملح لتهيئة البديل والفرص الأخرى لسد هذا النقص، والمسؤولية تقع بالدرحة الأولى على التربويين والدعاة إلى الله عز وجل.
ويمكن أن يتم هذا الأمر من خلال إفتتاح معاهد ومراكز مسائية تسعى إلى تقديم التعليم الشرعي وفق برامج تتناسب مع كافة الناس من الجنسين، ومن خلال تهيئة برامج للتعلم الذاتي كبرامج الحاسب الآلي وأفلام الفيديو وشبكة الإنترنت والإستفادة من التقنيات الحديثة في تفريد التعليم.
2= كثرة المؤثرات على الناس فهي تدعو إلى الإعتناء بنشر العلم الشرعي وإحيائه، لأن العلم الشرعي يعطي الناس القدرة على التميز بين الحق والباطل، وبين المفسد والمبطل، والناس إنما يؤتون من الجهل فيقعوا في الحرام أو يتركوا الواجب جاهلين بحكمه، أو أن تضعف إرادتهم فيتبعون شهوتهم مع علمهم بالحكم الشرعي، وقد تحدثنا فيما سبق عن الجوانب التي تقوي الإرادة.
والعلم الشرعي الذي يحتاجه الناس يشمل فروض الأعيان، وهو العلم الذي يجب على عامة الناس تعلمه، ويتمثل في مبادئ العلم الشرعي التي لا يسع أحد جهلها وهذه يجب أن تقدم لكافة الناس، كما يشمل إعداد طلبة علم يعلمون الناس ويقدمون لهم ما يحتاجونه في دينهم.
*المسار الثاني- التطوير النوعي للتعليم الشرعي:
لأجل أن تكون مخرجات التعليم الشرعي قادرة على مواجهة المؤثرات الجديدة التي تواجهنا فلابد من أن نعيد النظر في التعليم الشرعي القائم اليوم، فالجيل أمام تحديات عدة لابد أن يهيأ لها.
وحملة العلم الشرعي الذين يعدون للدعوة لابد أن يكونوا قادرين على التأثير في مجتمعاتهم، وقادرين على تربية الجيل الجديد، وقادرين على إستيعاب المشكلات الجديدة وكيفية التعامل معها.
وأحسب أنه حين يستمر التعليم الشرعي بنمطه اليوم فإنه سيعجز عن مواجهة المتغيرات التي تمر بالمجتمعات اليوم.
هذه بعض الخواطر والآراء والأفكار العاجلة التي سمح بها الوقت في هذا المقام والأمر كما قلت يحتاج إلى نقاش أوسع ويحتاج إلى بحوث ويحتاج إلى تكاتف جهود المختصين، لكن حسبي أن أثير التفكير في مثل هذه القضايا.
والله المستعان وعليه التكلان.
الكاتب: أ. محمد بن عبد اللّه الدويش.
المصدر: موقع مفكرة الإسلام.